دروس من أثينا إلى بيروت
- نشر في جريدة الحياة
- Nov 3, 2015
- 3 min read

في اليونان كما في لبنان، ينكث السياسي بوعوده الانتخابية، فيكافئه الشعب بإعادة انتخابه، وان اختلفت الدوافع. فالأول يحتكم الى موضوعية أرسطوطالية، بينما الثاني محكوم بصيغة للحكم مخلصة لفلسفة يوناني آخر: بارمانيديس الذي رأى أن كل شيء في الكون جامد لا يتغير.
جاء فوز حزب «سيريزا» الذي يتزعمه رئيس الوزراء أليكسيس تسيبراس في الانتخابات النيابية التي أُجريت في أيلول (سبتمبر) الماضي مفاجئاً لكثيرين. بخاصة الذين اعتقدوا أن الشعب اليوناني سيعاقب تسيبراس على خديعته لهم المتمثلة بحضهم على رفض الشروط التي وضعتها المفوضية الأوروبية ومعها البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي (الترويكا)، لحل الأزمة المالية التي تواجهها اليونان. فهو اعتبرها قاسية بما تفرضه من إجراءات تقشفية تمس سيادة اليونان وكرامتها. وبالتالي دعا الى استفتاء عليها في تموز (يوليو) الماضي مشجعاً شعبه على رفضها ومهدداً بالإنسحاب من منطقة اليورو ومؤلباً اليسار الأوروبي أيضاً على سياسات «الترويكا»، اعتقاداً منه أن ذلك سيشكل ضغطاً عليها يقوي ذراعه في المفاوضات معها. وعندما أعطاه الشعب ما أراد عكس بعد أسبوع من الاستفتاء موقفه وقبل بتلك الشروط ودعم اعتمادها من قبل مجلس النواب اليوناني.
ومن ســـوء حظ تسيبراس ان مناورته لم تنجح، حيث أن أسواق المال الأوروبية لــــم تنفــعل لنتائج الاستفتاء. بينما في المقابل شهدت سوق اليونان انهياراً، حيث تدافـــع المــودعون على البنوك لسحب ودائعهم، ما أدى الى إقفال أبوابها. كما رفعت المانيا الضغط باقتراح خروج اليونان موقتاً من منطقة اليورو ان شاءت ذلك.
ولم يأت موقف «الترويكا» المتصلب من دافع التشفي بقدر ما كان من دافع المحافظة على الاتحاد. حيث أن أي تساهل جديد بالنسبة للإصلاحات المؤسسية والاقتصادية التي يشترط تنفيذها قد توفر المثال الخطأ لأعضاء آخرين في الاتحاد وضعهم ليس أفضل كثيراً. فهم بمثابة بقية قطع الدومينو التي إذا سقطت يسقط الاتحاد بكامله.
أما العامل الآخر الذي ساهــــم في تشدد موقف «الترويكا» فهو أن اليونان كانت واجـــهت أزمة اقتصـــادية عام 2010 تطلبت تدخل «الترويكا» لإنقاذها حيث منحتها قـــروضاً بلغت 240 بليون يورو على أن تقوم الأخيرة بتنفيذ سلة من الاصلاحات المؤسسية والاقتصادية. لكنها استنفدت القروض ولم تجرِ أية اصلاحات في ضوء معدل عال من البطالة شكّل مانعاً أمامها، فضلاً عن عدم تقدير لأهمية تنفيذ الاصلاحات لتجنب تكرار الأزمة في المستقبل. وبالتالي، ومن قبيل أن العاقل لا يلدغ من ذات الجحر مرتين، أصرت «الترويكا» على ضرورة التزام اليونان بتنفيذ الاصلاحات ضمن آلية تربط جدول المساعدات بمقدار التقدم في عملية التنفيذ.
ركزت الاصــلاحات المطلوبـــة علـــى معالجـــة المشكلات التي تواجهها اليونان والعوامل التي تعيق عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية من بينها: المديونية العالـــية التي شكلت 178 في المئة من الناتــــج المحلي الاجمالي، وانخفاض كفاءة القطـــاع الحكـــومي بسبب المحسوبية والتدخلات السياسية حيث فشلت الحكومات المتـتـــالية منـــذ استقـــلال اليونان عن الدولة العثمانية في عام 1823 في إصلاحه، وضعف كفاءة النظام الضريبي المتمثلة بارتفاع نسبة التهرب ونقص التغـــطـــية، وضعف استقلال السلطة القضائية وخضوعها للنفوذ السياسي، وعدم استقـــلال مصلحة الاحصاءات وانخفاض الثقة بها، وانخفاض مرونة سوق العمل معطـــوفاً عـــلى ارتفاع معدلات التقاعد بسبب النفوذ الواسع للنقابات، وتدني كفاءة مرافق الخدمات العامة التي تديرها الدولة كالكهرباء وغيرها.
وليس من باب الصدفة أن تتماثل المشكلات التي تواجه اليونان بتلك التي يواجهها لبنان، حيث أنها تمثل عوامل رئيسية مشتركة وراء فشل التنمية الاقتصادية في الكثير من الدول. لكن الفارق الأساسي بين البلدين هو أن الشعب اليوناني يتحلى بموضوعية جعلته يقبل شروط «الترويكا» بعدما كان رفضها اعترافاً منه بأهمية الاصلاحات المطلوبة وبقيمة انتمائه لمجموعة اليورو، وفوائده. كما يدرك أن سيادة العضو في اطار الاتحاد لن تكون كاملة بطبيعة الحال، وستكون أقل ان كان مديناً للآخرين. وان كان الشعب اليوناني دعم رئيس وزرائه بعد مناورته الفاشلة وأعاده الى السلطة أقوى مما كان، فذلك لأنه قد يكون الأنسب ليدير مرحلة تنفيذ الاصلاحات التي ستكون شاقة ومؤلمة للجميع. كما أن تسيبراس الذي دافع بمهارة عن موقفه ربح قلوب اليونانيين الذين طالما أعطوا أهمية لأسلوب المحاور ومنطقه بغض النظر عن صحة الموقف الذي يجادل فيه.
بينما الشعب اللبناني يجافي الموضوعية عندما لا يعطي أهمية مستحقة للعلاقة العضوية بين السياسة والاقتصاد وبين الاستقرار والتنمية. وبالتالي لا يقدر بالشكل الكافي التأثير على مناخ الاستثمار لوجود التنظيمات الأمنية والعسكرية غير الشرعية. كما يرضى بصيغة جامدة للنظام السياسي لم تشهد تطوراً منذ الاستعمار العثماني، على رغم عدم توفيرها عوامل الاستقرار الضرورية لتحقيق النمو و توليدها التشوهات المؤسسية والإدارية الذي يشكل الفساد أبرز مظاهرها. ان الاستمرار على هذا المسار قد يؤدي الى نتائج سلبية جداً، في ضوء عودة ارتفاع الدَين العام وتراجع النمو الاقتصادي. فوصول الوضع الى حالة مشابهة لليونان ليس في حيز الممكن فحسب بل أصبح محتملاً. لكن من سوء حظ لبنان أن ليس لديه كاليونان شقيق أكبر كألمانيا يعتبر مثالاً ناجحاً في ادارة التنمية الاقتصادية والاجتماعية يمسك بيده ويلويها أحياناً لكي يضعه على مسار التطور الرشيد.
كاتب متخصص بشؤون الطاقة والتنمية






Comments