النزاع في القوقاز: فرص وتحديات
- نشر في جريدة الاقتصادية السعودية
- Aug 2, 2009
- 5 min read

فاجأت روسيا العالم بتنفيذ أكبر عملية عسكرية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ضد جارتها جورجيا، بعد أن قامت القوات العسكرية الجورجية بمهاجمة جمهورية اوسيتيا الجنوبية الانفصالية لاستعادتها إلى كنف السلطة المركزية. وقد تمكنت القوات الروسية من احتلال مناطق واسعة من جورجيا وهزيمتها عمليا، حيث أرغمتها على طلب وقف إطلاق النار. بعدها قامت روسيا بالاعتراف باستقلال كل من اوسيتيا الجنوبية والإقليم الانفصالي الآخر أبخازيا الواقع على البحر الأسود.
ويأتي هذا الفعل الروسي بمثابة رسم خط أحمر على السفوح الجنوبية لجبال القوقاز أمام تمدد الحلف الأطلسي نحو دول ومناطق الاتحاد السوفيتي السابق التي كانت تدور في الفضاء الاستراتيجي الروسي قبل انهيار الاتحاد. كما أرادت أن تقترب من مسارات خطوط نقل النفط والغاز، من أنابيب وسكك حديد، من مصادره في منطقة بحر قزوين إلى الأسواق في أوروبا وبقية العالم. ويشار إلى أن هذه الخطوط تتجاوز الأراضي الروسية لتمر جميعها عبر جورجيا نحو مرافئ تركيا ومرافئ البحر الأسود. الأمر الذي يحرم روسيا من التأثير على مصادر الطاقة الذاهبة إلى أوروبا من القوقاز والتي تنافس صادراتها من الطاقة إلى أوروبا الغربية عبر الأراضي الأوكرانية.
ويشار في هذا السياق أن الولايات المتحدة الأمريكية وبعض حلفاؤها في الغرب شجعوا ودعموا إنشاء خطوط الأنابيب التي تتجاوز الأراضي الروسية للحد من قدرة الأخيرة من الاستفادة منها في صراع النفوذ. خاصة أن روسيا لا تخفي استخدام قدراتها ومواردها الكبيرة من الطاقة لأغراض سياسية أو إستراتيجية. لذا تأمل من عملها العسكري هذا أن تستعيد بعض من نفوذها في منطقة بحر قزوين وفي دول أوروبا الشرقية التي، وان ابتعدت سياسيا عن روسيا، فإنها لازالت تعتمد على إمداداتها من الطاقة لسد قسط كبير من حاجاتها.
ومن أكثر العوامل التي تزعج روسيا هو تمدد حلف شمال الأطلسي إلى دول أوروبا الشرقية ومحاولته ضم كل من جورجيا وأوكرانيا إليه، وهما بمثابة بوابتين رئيسيتين لروسيا وشكلتا في الماضي جزآن أساسيان من الاتحاد السوفيتي السابق. وان كان ذلك لا يكفي لإثارة غضب الروس، فقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرا عن عزمها جعل بولندا مركزا لمنظومة الدفاع الصاروخي التي تقيمها في أوروبا بالرغم من معارضة روسيا لذلك إذ لا تعتبرها مبررة وبالتالي فإنها موجهة ضدها.
و يذكر أن مبرر استمرار الحلف الأطلسي، من وجهة النظر الروسية، لم يعد قائما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة. كذلك الحاجة إلى منظومة الدفاع الصاروخي التي تعتبر وليدة برنامج حرب النجوم الذي أطلقته إدارة الرئيس ريغان في منتصف الثمانينات ملوحة بسباق تسلح لم يكن الاتحاد السوفيتي قادرا عليه آنذاك بسبب تراجع موارده المالية مع الانخفاض القياسي لأسعار النفط من جهة، وتورطه في حرب التحرير الأفغانية من جهة أخرى، الأمر الذي عجل في انهيار النظام الشيوعي. إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تلبث أن وجدت مبررا للإبقاء على الحلف الأطلسي وللاستمرار في تطوير نظام الدفاع الصاروخي. كما تم التراجع عن النزع الكامل للأسلحة الإستراتيجية من العالم، وذلك في إطار تأكيد موقعها الجديد كأقوى دولة في العالم وقطبه الأوحد.
هذا ما لم يرق لروسيا، كما لم يكن في حسابات من توقعوا أن التحول، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، سيكون نحو نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يسوده الاستقرار السياسي في إطار التعاون والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. لكن روسيا كانت عاجزة عن اتخاذ أي إجراء عملي حيال ذلك في عهد الرئيس بوريس يلتسين في التسعينيات حين سادت الفوضى الاقتصادية وتراجعت قدرات روسيا الاقتصادية و العسكرية.
إلا أن عملية إعادة بناء القدرات الوطنية التي قامت بها إدارة الرئيس فلاديمير بوتين، أعادت الثقة إلى روسيا بقدراتها التي عززتها ارتفاع مواردها البترولية خلال السنوات الماضية. فكانت عمليتها الأخيرة في جورجيا وتدخلها في السياسة الداخلية لأوكرانيا، وتمايز مواقفها مؤخرا حول العديد من القضايا القائمة حول العالم، ما هو إلا تعبير عن هذه الثقة المستعادة. هذا التعبير الذي ينسجم مع طموحها الإمبراطوري الذي طالما ميز سلوكها السياسي عبر التاريخ.
إن كانت الدوافع الروسية لا تستعصي التحليل والفهم، فان الدوافع جورجيا ليست كذلك، بل يثير سلوكها تساؤلات عدة، خاصة وإنها كانت المبادرة في هذا النزاع العسكري بمحاولتها فرض الطاعة على إقليم جنوب اوسيتيا بالقوة. و الأرجح أن ردة الفعل الروسية لم تكن ضمن حساباتها. أو أنها أصغت لنصائح لم يكن غايتها حماية مصالح جورجيا الوطنية، بل تحقيق مآرب مبطنة نتيجة ارتفاع حالة عدم الاستقرار في المنطقة. وتحديدا رفع درجة مخاطر إمدادات النفط والغاز إلى أوروبا بشكل خاص والعالم بشكل عام.
إذ من غير المنطقي أن تتوقع جورجيا دعما ماديا مباشرا من أي من أصدقائها في الغرب لصد الهجوم الروسي عليها. فبالرغم من تراجع قدرة روسيا العسكرية وتقلص نفوذها نسبيا، فإنها لاتزال ثاني أكبر قوة نووية في العالم. من جهة أخرى، فان انشغال الإدارة الأمريكية في نزاعين في كل من العراق و أفغانستان، واحتمال نشوب نزاع آخر مع إيران، يجعل من التعويل على تدخل مؤثر للولايات المتحدة الأمريكية، أو حلفاؤها في الحلف الأطلسي احتمالا بعيدا جدا، حتى مع عدم الأخذ في الاعتبار أن الإدارة الأمريكية تشارف نهاية عهدها مع قرب الانتخابات الرئاسية.
كما أن الاتحاد الأوروبي غير قادر على تجاوز حدود معينة في دعمه للحكومة الجورجية، أو في رد فعله على التصرف الروسي حيالها. حيث أن أوروبا تعتمد إلى حد كبير في استهلاكها من الطاقة على ما تستورده من روسيا، وبالتالي لا يمكنها أن تعرض استمرار هذه الواردات للخطر. ويفسر هذا الوضع أيضا عدم موافقة ألدول الأوروبية على فرض عقوبات تأديبية على روسيا بسبب تدخلها العسكري. ويقف هذا الاعتبار خلف التباعد بين الموقفين الأوروبي باستثناء تركيا،من جهة، والأمريكي من جهة أخرى. ذلك لان أمريكا وهي الشريك الأقوى النافذ في حلف شمال الأطلسي لا تعتمد بقدر اعتماد أوروبا الغربية على النفط والغاز الروسي أو القوقازي. بينما تركيا، وهي بمثابة عضل الحلف الأطلسي في أوروبا، تستفيد من خطوط نقل الطاقة من منطقة القوقاز العابرة لجورجيا إلى أراضيها ومنها إلى العالم. بينما نجاح روسيا بالتأثير على أمن تلك الخطوط، أو جعل الخطوط التي سيتم إنشاؤها في المستقبل تمر عبر أراضيها سيحرم تركيا من فوائد مادية وإستراتيجية.
بغض النظر عن التداعيات السياسية والأمنية والاقتصادية لهذا النزاع التي قد تنشا في الأشهر والسنوات القادمة ، فان معظم المراقبين يتفقون على أنه قد ألحق الأذى بمستقبل موارد الطاقة لدول بحر قزوين. وفي حال سقوط إدارة الرئيس الجورجي ميخائيل سعاشكفيلي الموالية للغرب، ومجيء إدارة مؤيدة لروسيا، فان جميع مسارات الطاقة من تلك المنطقة تصبح تحت السيطرة غير المباشرة لروسيا. لكنه بغض النظر عن طبيعة السيناريوهات الممكنة والمحتملة، فان هناك نتيجة مهمة لا شك فيها، هو أن هذه التطورات قد ضاعفت من قلق أوروبا حول أمن إمداداتها من النفط والغاز الآتية من روسيا وتلك الآتية من منطقة بحر قزوين.
يجدر الملاحظة أن روسيا، وبالرغم من بعض التلميحات أحيانا، لم يسبق لها أن استعملت صادراتها من النفط والغاز كأداة ضغط مباشرة على أوروبا. إلا أن هذه الحقيقة لن تشكل، بعد الإحداث الأخيرة، مصدر اطمئنان لأوروبا حول أمن وارداتها من الطاقة، وبالتالي لا بد لها من التعامل مع هذا الوضع الجديد. وقد يكمن خطأ روسيا في أنها قد تكون تخطت الحدود التي بعدها لا يمكنها أن تطمئن عملاؤها الأوروبيين بأن صادراتها من الطاقة لن توظف للإغراض السياسية وللتنافس على النفوذ. وبالتالي تكون قد ألحقت الأذى الدائم بعلاقاتها الاقتصادية والتجارية المستقبلية مع أوروبا.
إن أمام أوروبا خيارين لا ثالث لهما إن شاءت تعزيز أمن الطاقة: الأول، هو زيادة درجة تنويع مصادرها من النفط والغاز لتقليل الاعتماد على وارداتها من روسيا ومن منطقة بحر قزوين. أما الثاني، فهو العمل على الاستغناء الكلي على المدى المتوسط والبعيد عن النفط والغاز الطبيعي.
بالنسبة للخيار الأول فان زيادة وارداتها من شمال أفريقيا هو ممكن ولكنه غير كاف بسبب محدودية موارد المنطقة. وتبقى منطقة الشرق الأوسط وتحديدا منطقة الخليج البديل الوحيد الذي يمكن أن يوفر لها أمن الإمدادات المطلوب خاصة من الغاز الطبيعي. كما يمكنها أن تستورد الطاقة الكهربائية من دول الخليج من خلال الشبكة العربية للكهرباء عبر تركيا إلى أوروبا الغربية، بعد تعزيز قدرة الشبكة. بينما تصدير الغاز يتطلب إنشاء خط أنابيب ينقل الغاز العربي عبر شبه الجزيرة إلى الأردن وسوريا ثم تركيا. كما انه يمكن لإيران، في حال تحسن علاقاتها مع الدول الغربية، أن تصدر الغاز إلى القارة الأوروبية عبر تركيا أيضا. ويلاحظ أن تركيا تبقى مستفيدة من هذا البديل الذي قد يعوضها ما يمكن أن تخسره جراء تردي الأوضاع في جنوب القوقاز ومنطقة بحر قزوين.
أما الخيار الثاني فيستند على تطوير البدائل الكاملة للنفط والغاز خاصة في قطاع النقل. ويشار أن العديد من الجهات في العالم، ولغايات مختلفة، تروج لمثل هذا المسار داخل أوروبا وخارجها. كما أن هناك مجموعات مؤثرة في الولايات المتحدة الأمريكية تدعم هذا الاتجاه، وقد نجحت جزئيا في إدخال هذا التوجه في البرامج الانتخابية لكلى الحزبين: الجمهوري والديمقراطي. وقد يكون الدافع الخفي لزيادة التوتر في منطقة القوقاز هو الدفع في هذا الاتجاه خدمة لمصالح بعض الجهات النافذة.
إن ما يجري في القوقاز حاليا وما قد يترتب عليه من تداعيات في المستقبل لا يمكن فصله عن منظومة المصالح الإستراتيجية لدول المنطقة، سواء بما تبرزه من تحديات أو ما توفره من فرص.






Comments